
“نصّ لصّ”.. هل قرأتم قصص بسام كوسا؟
كلما حاول الإنسان الهروب من واقعه المادي الملموس، فإنه حتماً سيكون في مواجهة عالمه المثالي، وحتى يصل إلى نوع من التوازن في انفعالاته بين واقعه وطموحه، من الطبيعي أن تهرب النفس الإنسانية إلى حيث الانسجام الروحي الكامل أو أن يهرب البشر من أرواحهم وأنفسهم.
صراعات فرعية عدة يعيشها أبطال وشخصيات الفنان السوري بسام كوسا في مجموعته القصصية “نص لص”، التي تقع في 112 صفحة من القطع المتوسط والصادرة عن “دار الجندي” في دمشق عام 1998، لتصب بمجملها في الصراع العام وهو الصراع مع القدر، فكل ما يحمله هذا القدر من حالات تمتد إلى الفقر والاغتراب والواجبات ومصائر مجهولة متنوعة.

في قصة “يُمّا … مويل الهوى”، يقول المؤلف: “رائحة العرق يكرهها، إلا أنها اختبأت في ذاكرته على أنها رائحة متعة ما”، ويضيف: “ورحمة الله عليك أيها الطيّان المشاكس، عندما كنت تقول عيشتنا عيشة كلاب”، فلا يتهرب الكاتب من إقحام فلسفته ورؤيته الحياتية في صلب القصص بصورة أو بأخرى، وهو في أحايين عدة يُدخل نفسه في فحوى تفكيرهم ليتوصل وإياهم إلى هدنة تضفي نهاية درامية مقبولة، وهذا كله بالتنسيق مع إدراج الهم القومي والمحلي ليؤكد شدة الالتحام فيما بينهما سواء من حيث الصراع والتشويق “أخذها اليهود يمّا”.
تبرز شدة العلاقة بين الحقيقة والخيال في قصة “أنا وهو” لتخرج النفس للحياة دون رقيب من الداخل أو تبيان حقيقة خوف النفس قبل الجسد وشدة العراك بين الشكل والمضمون الإنساني، فالنفس صريحة وصادقة ولا تخفي شيئاً وبالتالي فهي بريئة، أما الشكل أو الجسد فمطلوب منه التسلح بروح العلاقات العامة أو “الإتيكيت”، كما يُقال، وفي هذه القصة مقاربة واقعية جداً كما يعتمل داخل أبطال الحياة.
لا يغيب الهمّ المعيشي عن قصص “بسام كوسا” فهو يقول في قصة “الليلة عيد عالدنيا سعيد”: “أقدام أولاده الباردة تدوس على خدّيه وجبينه” وهي صورة أدبية بارعة في التصوير والتخييل، لينتقل إلى عرض مآسي المرأة الشرقية، إن صح التعبير، في قصته “مكاشفات امرأة خرجت عن القانون”، فالمرأة تُحاكم دون دلائل رغم كل ما تعانيه، فهي مهضومة الحقوق “ولكن عين زوجي كانت دائماً تنظر للخارج وقبضته كانت للداخل”، وهو يتطرق من ناحية أخرى إلى إشكالية التقاليد والتراكمات والتوارثات والتمسك بأحد اللونين “الأبيض أو الأسود” في قصة “واحد وواحد”.
إن ما يميز التقنية السردية في هذه المجموعة هو المحافظة على الأسلوب الموحد والقريب لكتابة السيناريو من حيث سهولته وتوصيف الوقائع مروراً بالأفكار الصغيرة والقصيرة والخاطفة من خلال جمل بالغة السهولة وانتهاءً بكلمات جزلة وقوية مليئة بالحركة والحيوية، وهذا كله لا ينفي مسألة الحديث عن الشخصيات وسرد قصصهم من البداية إلى النهاية والوصول إلى مصائر الشخصيات بحبكة قصصية لا تخلو من التناوب، فقد انتهت نسبة “90%” من المصائر بالموت أو الانتحار، وأتساءل إن كان ذلك صدفة أم حلول نهائية للعقد القصصية؟
يطرح المؤلف “كوسا” أسئلة شاع ذكرها بعد ظهور فلسفة وفكر ما بعد الحداثة من قبيل “ماذا تريد من هذا العالم؟” في قصة “نملة واحدة فقط” وهو سؤال يُعجز الإجابة عليه بعد أن كثرت مصادر المعلومات و”ضاعت الطاسة” كما يُقال.
لا تتوانى القصص في كشف مواطن الخلل في الإنسان وبالتالي المجتمع بلغة قصصية جيدة التعبير عما آل إليه وضع البشر منذ القدم إلى الآن، من خلال تلخيص شامل وكشف حقيقة الشعوب البائسة والمتلكئة واستبداد الحكام وطغيانهم سواء في قصته “المكاشفة” أو “مياوم” في طريقة سرده الموجهة للشخصيات وكأنها أوامر بأن تفعل كذا ولا تفعل كذا والنهايات التقليدية تشهد على ذلك كما في قصة المكاشفة “أينما وجهت وجهك قابلتك الصفعات”، وهذه الجملة تبرز النهايات الحتمية للواقع المعاش.
أبطال “بسام كوسا” في مجموعته القصصية “نص لص” أنصاف، فها هو “نصف طيان، نصف صديق، نصف رجل، نصف عامل، نصف فنان”، وما إلى ذلك من أنصاف، لكن المؤلف يعلن في بداية مجموعته بأنه ليس هناك نصف لص، بل أناس كاملو اللصوصية وليس من قصة في هذه المجموعة تحمل اسم “نص لص” كما يؤكد.
مقال سابق نشرته إحدى الصحف السورية.
ملاحظة: قد يتساءل البعض عن جدوى الرجوع إلى كتب قديمة وتحليلها. ورد “بزنس برس” هو أن الكتاب بوصفة الوسيلة الثقافية الأولى لا يبتعد عن كونه خارجاً من إطار الزمان والمكان.. وتبقى المواضيع المطروحة هي الحكم.