أسس الفكر الحضاري عند ابن خلدون

مدخل

بعد نشر مقالنا في موقع “بزنس برس” بعنوان “إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية”، استدرك علينا الصديق والأستاذ معالي السفير الدكتور عبد الكريم هاريلمانا، سفير جمهورية رواندا في إندونيسيا، بأننا أغفلنا ذكر بعض العلماء الذين كان لهم تأثير كبير في الحضارة الإنسانية. 

وأشار معاليه إلى أن عدداً من العلماء، الذين يعتبرون من أعظم المفكرين في التاريخ الإسلامي والعالمي، لم يُذكروا في المقال، رغم إسهاماتهم العميقة التي تجاوزت حدود عصرهم. 

في ردنا على معاليه، أكدنا له أننا تعمدنا ذلك على أمل كتابة سلسلة من المقالات المستقلة التي تستعرض إسهامات هؤلاء العلماء في مختلف مجالات الفكر، بما في ذلك الفكر الحضاري والفلسفي.

وعليه، هذا المقال يأتي بعد الحديث عن ابن رشد، مُبَينًا دور ابن خلدون في بناء الأسس الفكرية للحضارة الإنسانية، في ضوء الشريعة الإسلامية والمجتمع.

رسم تخيلي لـ”ابن خلدون” – ويكيبيديا
رسم تخيلي لـ”ابن خلدون” – ويكيبيديا

السيرة الذاتية: حياة حافلة بالعطاء والتحولات

النشأة العلمية

وُلِد ابن خلدون في تونس عام 1332م في أسرة أندلسية ذات أصول حضرمية، كانت تهتم بالعلم والدين. تلقّى تعليمه في مدارس تونس حيث درس القرآن الكريم، والفقه المالكي، وعلم الحديث، والنحو، والفلسفة. هذا التنوع العلمي شكّل ركيزة أساسية لفكره الموسوعي، وسمح له برؤية شاملة للتفاعلات الاجتماعية والسياسية في عالمه.

التجارب السياسية والإدارية

على الرغم من نشأته الأكاديمية، إلا أن ابن خلدون انتقل إلى ميدان العمل السياسي والإداري، حيث شغل عدة مناصب في البلاط المريني في فاس، وشارك في الحياة السياسية للأندلس والمغرب. عمل ككاتب ديوان في فاس، ودبلوماسي في غرناطة، وقاضٍ في مصر. هذه التجارب أكسبته معرفة عميقة بديناميكيات السلطة ودور الدولة في استقرار المجتمعات.

التحولات الكبرى

شهدت حياة ابن خلدون تحولات كبيرة شملت السجن والنفي، بما في ذلك عزله في قلعة بني سلامة في الجزائر. خلال هذه الفترة، كتب عمله الخالد “المقدمة”، الذي يعرّف بآليات نشوء وسقوط الأمم والحضارات. هذه المقدمة أصبحت مرجعية في العديد من المجالات، بما في ذلك علم الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد.

“المقدمة”: موسوعة فكرية شاملة

تعد “المقدمة” أكثر من مجرد تمهيد لتاريخ ابن خلدون، فهي بمثابة موسوعة فكرية تناولت العديد من المجالات بشكل غير مسبوق في ذلك الزمن. أبرز الموضوعات التي تناولتها “المقدمة” تشمل:

1- العصبية كقوة دافعة لقيام الحضارات: ابن خلدون وضع العصبية، وهي الرابط الاجتماعي بين أفراد المجموعة، كعنصر أساسي في قيام الدول والحضارات. إذ تعتبر العصبية سمة أساسية لتحفيز الفئات على النضال من أجل البقاء وتطوير مجتمعهم.

2- الاقتصاد والعمل كركائز أساسية لبناء الأمم: ركز ابن خلدون على أهمية الاقتصاد في بناء الدولة، حيث أشار إلى دور العمل والإنتاج في تحفيز التنمية واستقرار المجتمعات.

3- التعليم والثقافة وأثرهما في تشكيل المجتمعات: اعتبر ابن خلدون أن العلم والتثقيف هما الأساس الذي يبني عليه المجتمع، وأن تقدم الأمة يعتمد بشكل أساسي على مستوى التعليم والممارسات الثقافية.

4- دورة الحضارات من النشوء إلى الرفاه ثم السقوط: أشار إلى أن الحضارات تمر بدورة من النشوء، ثم الرفاه، ثم التدهور والسقوط، وهي عملية حتمية مرتبطة بالقيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الخلفية الشرعية وتأثيرها في فكر ابن خلدون

تأثر فكر ابن خلدون بشدة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، حيث استلهم من الشريعة الإسلامية مفاهيمه الأساسية عن العدالة الاجتماعية، والتدرج في بناء المجتمعات، والعلاقة بين السلطة والشعب.

التأثير القرآني والنبوي

* التغير الاجتماعي: استند ابن خلدون إلى الآية الكريمة: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد: 11)، ليؤكد على دور الفعل البشري في إحداث التغيير في المجتمعات.

* دورة الحضارات: استلهم مفهوم دورات الحضارات من قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” (آل عمران: 140)، وهو يعكس رؤية ابن خلدون في أن الأمم تمر بمراحل متفاوتة من الازدهار والانهيار.

* العمل والإنتاج: ربط ابن خلدون بين مفهوم العمل كقيمة أساسية في بناء المجتمعات مع الأحاديث النبوية التي تحث على الإنتاجية مثل: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ”.

النظريات المستوحاة من المنهج النبوي

* التدرج الحضاري: استلهم ابن خلدون تدرج النبي ﷺ في بناء دولة الإسلام في المدينة كمثال على كيفية بناء الدولة عبر مراحل من التأسيس والتنظيم.

* العصبية المعتدلة: اعتبر العصبية بمثابة قوة إيجابية إذا وُجهت نحو أهداف نبيلة، وهو ما يتوافق مع رؤية النبي ﷺ في توحيد المسلمين حول القيم العليا.

* العدل أساس الملك: اتخذ ابن خلدون من سيرة النبي ﷺ نموذجًا للمجتمع المثالي الذي يبنى على العدل، حيث اعتبر أن استقرار الدول وتطورها يعتمد بشكل أساسي على تحقيق العدالة في الحكم.

ابن خلدون في عيون القادة العالميين

بوريس جونسون: أشاد رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بوريس جونسون برؤية ابن خلدون لدورة الحضارات، حيث قال: “لقد كان ابن خلدون أحد أوائل من أدركوا أن ازدهار الحضارات وسقوطها مرتبط بقوانين اقتصادية واجتماعية واضحة. لقد وضع أسسًا فكرية نحتاجها اليوم لفهم تعقيدات السياسة والاقتصاد في عالمنا المعاصر”.

رونالد ريغان: استشهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان بابن خلدون في سياق حديثه عن الضرائب، حيث قال: “ابن خلدون، الفيلسوف العربي الكبير، كان أول من أشار إلى أن ارتفاع الضرائب يؤدي إلى تراجع الإنتاجية، وأن تقليلها يعزز الاقتصاد. لقد أدرك هذه الحقيقة منذ قرون طويلة”.

تحليل أثر الفكر الخلدوني

بوريس جونسون: ربط جونسون مفهوم العصبية الذي طرحه ابن خلدون بتحليل صعود الدول وسقوطها، واستفاد من هذا التحليل في فهم الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الحديثة.

رونالد ريغان: استلهم ريغان من أفكار ابن خلدون حول العلاقة بين الضرائب والاقتصاد، وتبنى سياسات ضريبية تركز على تقليص الضرائب لتحقيق النمو الاقتصادي، وهو ما يعرف بـ “ثورة ريغان الاقتصادية”.

الجامعات والمؤسسات التي اهتمت بفكر ابن خلدون

شهد فكر ابن خلدون اهتمامًا أكاديميًا عالميًا من مؤسسات مرموقة مثل:

جامعة الأزهر (مصر): تدرّس “المقدمة” في سياق الدراسات الإسلامية والاجتماعية.

جامعة الزيتونة (تونس): تعزز مكانته كرمز فكري تونسي.

جامعة السوربون (فرنسا): تقارن بين فكره وفلاسفة عصر النهضة.

جامعة هارفارد (الولايات المتحدة): تعتمد أعماله في علم الاجتماع.

معهد الدراسات الشرقية (برلين): نشر وترجمة أعماله إلى لغات عدة.

أثر ابن خلدون على الفكر الإنساني

ابن خلدون ليس مجرد مؤرخ، بل هو مؤسس رؤية فكرية تجاوزت حدود الزمان والمكان، وأثرت بشكل عميق في الفكر الغربي والإسلامي. كما أثّر في العديد من المفكرين مثل أرنولد توينبي الذي وصفه بـ “أعظم فلاسفة التاريخ”، وتأثر به إميل دوركهايم في تطوير منهجية علم الاجتماع.

خاتمة

يمثل ابن خلدون نموذجًا للفكر الإسلامي الموسوعي الذي استطاع تجاوز حدود الزمان والمكان. “المقدمة” ليست مجرد دراسة تاريخية بل رؤية شاملة لفهم قوانين الاجتماع والسياسة والاقتصاد. إشادات قادة عالميين بأفكاره تؤكد أن فكره ليس مجرد تراث إسلامي، بل إرث عالمي يستحق الاستلهام لدراسة تعقيدات العصر الحديث.

المراجع

       1.    ابن خلدون، “مقدمة ابن خلدون”، ط. دار الفكر، 1996.

       2.    توينبي، أرنولد، “دراسة تاريخية”، 1975.

       3.    دوركهايم، إميل، “قواعد المنهج السوسيولوجي”، ط. دار النشر، 1992.

       4.    ريغان، رونالد، “خطاب الرئيس الأمريكي 1981”.