
حسن حميد: الأدباء الذين كتبوا ضد الظلم هم أهلي
واقعُ الرواية العربية في الوقت الراهن من وجهة نظر الكاتب الفلسطيني حسن حميد هو واقعٌ جيد، إذ ثمة اهتمامٌ وتشجيع لها، وحضورٌ في النقد الأدبي، وقبولٌ من دور النشر، وهو ما يظهرُ واضحاً عبر “السوشيال ميديا”، لكنه في الوقت نفسه يؤكد بأن الرواية اليوم بحاجة إلى ثقافة موسوعية تقوم على “الفكرة الذكية والإقناع والمتعة”، وهي معادلة تحتاج إلى الذكاء الصناعي والرقمنة.
أما مفهوم الـ”بزنس” حسبما يؤكد الكاتب، فهو مفهومٌ له علاقة بالسلعة لا بالرسالة، ولهذا فإن كتاباته لا تلاقي انتشاراً كحاجة يسأل عنها كل الناس، وإنما هي كتابةٌ يسأل عنها بعض الناس.
وفيما يلي الحوار الكامل الذي أجراه موقع “بزنس برس” مع الكاتب الفلسطيني حسن حميد:

أعمالكَ توثّق تاريخ وتراث الشعب الفلسطيني؛ كيف يمكن الاستفادة من الذكاء الصناعي في سبيل تحقيق هذا الهدف؟ وبرأيكَ هل تنجح الرقمنة في التعبير عن آلام وهموم الشعوب؟
أنا كاتبٌ فلسطيني، ابن مخيمات، ولدتُ، وتربيتُ فيها، أنا لاجئ، مطرودٌ من قريتي في الجليل الأعلى القريبة من جسر بنات يعقوب، قريةٌ تحيطُ بها طبيعة مدهشة.. شجراً، وحقولاً، وغابات، ويمر بها نهر الأردن المقدس.. قريةٌ فيها كل ما تعنيه حين نتحدث عن الأساطير، فيها معابدٌ قديمة تُؤرخُ للعلاقةِ ما بين الأرض والسماء، وفيها مغاورٌ تُؤرخُ لسطوة الخوف، وفيها ضفافٌ تُؤرخُ لجمالِ النساء الذاهبات إلى ضفة النهر بوجوهٍ قمرية، وكأنهن ذاهباتٍ إلى حفلاتٍ موسيقية، هناك يغسلنَّ الثياب، والزلالي، والحُصر، وهناك يتناوبنَ على الاستحمام والحراسةِ بالتبادل، وهناك تمشي الحكايات على قدمين، ويحلقُ الخيالَ بألف جناح.
والقرية.. كتابٌ للميثولوجيا، فيه من الغرائب والعجائب والخيال والقصص.. ما يجعلُ الأشجارَ والتلالَ والأعشابَ والحجارة.. رواةٌ لكل ما يحدثُ ويدور.
كل هذا.. جعلني ألتفت إلى المكان الفلسطيني الذي افتُّك منا بالقوة، فعدتُ لأكتُبَ عنه، وعن الحال السوسيولوجيا التي عاشها أهلي، فأبدّتُ تراثهم بكل وجوهه المادية وغير المادية، ووقفتُ عند صراعهم مع الغزاة الذين طمعوا بأرضهم، وهم كثرةٌ، وتاريخ المواجهة طويلٌ ومرير، وواحدةٌ من هذه الغزوات، الغزوةُ الصهيونية قبل قرنٍ من يوم الناس هذا، ومازالت ترسيماتها جلية واضحة ومتفاعلة إلى يومنا هذا.

لكل هذا أقول: أنا أحترم معطيات الذكاء الصناعي، وأحترم معطيات علم الرقمنة، ولكن أتخوف من مُطلق حريتهما، لأنهما معاً عرضةً للعبث والتحوير، وهنا تكمنُ المخاوف، لأن الأمر يتعلق بالرؤيا، فأي استخدام للذكاء الصناعي بقصد الإساءة وحرف الرؤيا هو خطر.
أنا مثل غيري بحاجة للمراجع.. بحاجة للذكاء الصناعي.. وبحاجة للرقمنة.. لأن الرواية اليوم ليست وقفاً عند مقولة (سعيد أحب سعدية، وبعد تجاوز العقبات، تزوج الاثنان، وأنجبا)، وإنما الرواية اليوم بحاجة إلى ثقافة موسوعية تقوم على ركائز ثلاثة هي: /الفكرة الذكية، والمنطق والإقناع، والمتعة/، وهذه المعادلة بحاجة إلى انتباهات مهمة منها الرقمنة والذكاء الصناعي..
أما النجاح بهما، “أقصد هما طبعاً” هو نجاحٌ يشبهُ نجاح مايكل أنجلو حين نحت تمثال موسى بكل الحذق والدقة، ولكن نهره بمطرقته قائلاً له: “انطق”، بدت لنا أن الروح كانت غائبة، وغياب الروح والأحاسيس في الرواية هو فقدٌ عظيم، قد تكون الرواية جميلة، وفيها حذق، لكنها من الروح والأحاسيس.. هي روايةٌ من شمع، ومكانها متحف الشموع.

برأيك، هل يصل الأدب الملتزم بقضايا وطنه إلى جمهور اليوم (جمهور السوشيال ميديا)؟ وهل يُعتبر الكتاب الرقمي الطريقة البديلة حالياً للتغلب على معوقات وصول رسالة الأديب؟
نعم، هذا سؤالٌ جيد.
فللأسف نحن لدينا عدوٌ مكين، له عينٌ موشورية، يبحثُ عن كل ما نكتبه، في كل مكان، لا لتشجيعه، بل لطيهِ، وتحييده، ومحوه، كما لو أنه لم يكن. كتاباتنا عن فلسطين ومن يحتلُ فلسطين لا تصل إلى القارئ العربي، فكيف ستُترجم وتصلُ إلى القارئ الأجنبي؟
هنا تكمنُ الصعوبة في توصيلِ السردية الفلسطينية إلى الآخر، وغالباً هو مدركٌ لسردية عدونا الذي استطاع توصيل سرديته إليه، لأننا نحن لا نمتلك القدرة أو الإحاطة كي نواجه سرديته.
الآن، وفي هذا الزمن المتطور تخدمنا علوم الرقمنة والميديا عموماً، لأن قدرتها على التوصيل جدّية وأحياناً مدهشة.
إن نشر الأدب الملتزم بقضاياه عبر وسائل الرقمنة هو أمرٌ مذهل، ويحققُ نتائجَ جميلة، ومهما قوبل بالمواجهة يظلُ قادراً عن طريق الرقمنة على إعادة المحاولة.

أعمالك تقترب من واقع الناس البسطاء والمحرومين.. تنحازُ لأوجاعهم وتكتبُ عن آهاتهم، لكنها قد لا تمثل “بزنس” برأي الكثير من الأدباء، برأيكَ هل الكتابة لأوجاع الناس أهم من “البزنس” في هذا الوقت رغم الظروف الاقتصادية الصعبة الراهنة؟
أنا كتبت معظم أعمالي عن قضيتي الفلسطينية، عن أحلام الناس وأشواقهم للعودة إلى قراهم ومدنهم الفلسطينية التي شُردوا وطُردوا منها عام 1948، كتبتُ فعلاً عن ما عانوه في مخيمات المنفى، وما عاشوه من حرمانٍ من كل وجوه الحياة البسيطة، عاشوا في الخيام وهي ليست بيوتاً لها أبواب وجدران ونوافذ وسقوف، فالخيام أمكنة وليست جغرافية، والخيام ليست قرى أو مدناً إنها حالٌ مكانية طارئة وبديلة لمفهوم الاستقرار، أمكنة لصيقة بمعنى اللاجئ.
أما مفهوم الـ”بزنس”، فهو مفهومٌ له علاقة بالسلعة لا بالرسالة، ولهذا كتابتي لا تلاقي انتشاراً كحاجة يسأل عنها كل الناس، وإنما هي كتابةٌ يسألُ عنها بعض الناس، أنا لستُ أليف شافاك التي تكتبُ عن قواعد العشق.. أنا أكتب عن مخيمات وخلق خلّفوا وراء ظهورهم كل مُتع الدنيا، وكل أحلامها، ونادوا: “بلادي.. بلادي”.
في عام 1987 صمم البروفيسور جاي ديفيد بولتر، أستاذ علوم الحاسوب في جامعة “نورث كارولينا” الأمريكية أول برنامج من نوعه لتأليف وتحرير وقراءة القصص والروايات الرقمية، بالتعاون مع الكاتب الأمريكي مايكل جويس، وتم إطلاق اسم ستوري سبيس StorySpace عليه، ليتم في نفس العام كتابة أول رواية رقمية بالعالم باستخدام هذا البرنامج وهي الرواية الرقمية الشهيرة (الظهيرة، قصة Afternoon, a story). هل تنجح التكنولوجيا بتأليف رواية رقمية تحمل الرسالة التي يريدها الأديب؟
سؤالٌ مهم..
الحذق والمهارات والمراجع.. كلها مهمةٌ في كتابة الرواية، وكلها تصنعُ رواية مثل الرواية الرقمية، لكنها روايةٌ تشبهُ لوحة الفنان الأصلية واللوحة التي تنسخها الرقمنة عنها، فالرقمنة أكثر حذقاً ومهارة، لكن الأجمل هو من امتلأ بالإحساس.
كلنا نرى الأنهار ونشعر بجمالها، وكلنا أيضاً لم ننتبه لالتواءاتها وتعرجاتها لأن جمالها طفوح، والحال هي كذلك حين ننظر إلى الأشجار.. والنساء.

تميزتَ بتقديم النموذج الروائي في صورته وتداعياته وصراعاته الداخلية، وفكره بغض النظر عن انتمائه الديني أو الإثني.. كيف استطعتَ أن تغوصَ في أعماق النفس البشرية التي تحارب التمييز العنصري بين البشر؟ وما واقع القصة والرواية العربية في عصر التحول الرقمي والذكاء الصناعي؟
الكاتبُ المتعصب للونٍ معين لا ينجحُ إلا في نظر من يحبون هذا اللون، أنا لديّ قضية عظيمة هي القضية الفلسطينية، ولي حلمٌ عظيم أيضاً هو أن يعود صاحب البيت إلى بيته، وأن يعود الحفيد ليسلمَ على جده وهو طي القبر، وأن يعودَ حافرُ البئر إلى بئره ليرى إن كانت ما تزال قادرة على ري أهل البيت والحاكورة.
لهذا كتبت أدباً إنسانياً يهمُ كل محرومٌ ومظلوم أشبهُه ويُشبهني، فالأدب الملتزم أو المقاوم هو التزام ومقاومة لكل أشكال الظلم وصوره وطيوفه، ولهذا هو رسالة تخصُ كل من في صدره ضمير، وكل أدباء الدنيا الذين كتبوا أدباً ضد الظلم والوحشية والعنصرية هم أهلي.
أما واقع الرواية العربية، فهو جيد، ثمة اهتمامٌ وتشجيع (الجوائز)، وحضورٌ في النقد الأدبي، وقبولٌ من دور النشر، وكل هذه الصورة يُبديها عالم الميديا، وعالم الرقمنة.

من هو حسن حميد؟
كاتب قصصي وباحث وروائي فلسطيني، من مواليد العام 1955 في الجليل الفلسطيني، بكراد البقارة قضاء صفد، عاش في مخيمات الشتات بسوريا، وتلقى تعليمه في دمشق والقنيطرة، وعمل معلماً فيها، التحق بجامعة دمشق ونال إجازة في الآداب من قسم الفلسفة وعلم الاجتماع عام 1980، وعلى دبلوم تربية عام 1981، وعلى دبلوم دراسات عليا في التربية عام 1982، ثم نال الإجازة في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية.
تَسَلمَ رئيساً لتحرير في صحيفة “الأسبوع الأدبي”، ومجلة “الموقف الأدبي” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا، وكذلك عضو في جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب.
أصدر حسن حميد أكثر من عشر مجموعات قصصية، تحوي بين دفاتها أكثر من مائة قصة قصيرة، ونالت نصوصه جوائز في البلاد العربية وفي ألمانيا منها جائزة نجيب محفوظ لعام 1999 عن رواية “جسر بنات يعقوب” التي ترجمت إلى اللغتين الفرنسية والتركية.