نسيمة الراوي: مع كل قصيدة تولد قصة حب.. ولا أجيد “بزنس” التسويق
في حوار مع “بزنس برس”، تتحدث الشاعرة والروائية المغربية نسيمة الراوي عن الأدب والثقافة والاقتصاد، وهي المتخصصة في التسويق، متحدثةً عن علاقتها بالطبيعة والتي تسميها بالانصهار “تلبسني عناصرها وألبسها”..
كما تتطرق إلى الحديث عن واقع المرأة المغربية والعربية؛ وعن مشاريعها الأدبية في مجال الشعر والرواية.
نسيمة الراوي من مواليد 1988، احتفى بها اتحاد كتاب المغرب العربي ضمن سلسلة محمد شكري، كما فازت بالعديد من الجوائز منها؛ مبادرة بيت الشعر بالمغرب، ودار النهضة العربية بلبنان 2012، وجائزة طنجة الشاعرة الدولية 2012، وجائزة حوار الثقافات للأدب 2013.
لك إصدارات عدة، من بينها رواية “تياترو ثرفنطيس”، وديوان “قبل أن تستيقظ طنجة”، وديوان “على حافة سطح” الذي رأى النور مؤخراً، فضلاً عن أعمال أخرى.. وسط كل هذه الأعمال، أين تجدين نفسك أكثر؟
لا أخفيك سرّاً إن قلتُ إن الكتابة بالنسبة إلي واحدة مهما تنوعت حدودها الأجناسية وتوسعت بفعل قوة الإبداع من داخلها؛ ذلك أن النص الأدبي هو تاريخ من البحث المضني عن الفرادة والخصوصية؛ لهذا أجد نفسي وجهاً لوجه مع البياض..
فكلما جلست أتأمل العالم من حولي بتمزقاته وكثافة اليومي من داخله ونتوءات الذات في علاقتها بالذاكرة والتاريخ إلا وتعمقت علاقتي بكتابة الشعر؛ لأن الأمر يختلف تماماً عن كتابة رواية من منظور معين..
فالشعر بالنسبة إلي لا سلطة لي عليه ما دام يمتلك تلك الروح السحرية التي تجعلنا نحلق بواسطتها خارج فكرة الحدود نفسها؛ إنه حديث كلام لا يمكن إلا أن يترجم تلك الإحساسات الدقيقة ويسعى إلى الكشف عنها باقتصاد لغوي شديد كي لا نقول كل شيء..
إن الشعر يأتيني في أثناء فعل الكتابة دون تكلف أو أي نزوع نحو التصنع، وأنا أتعمد أن لا أنادي عليه أتركه حتى يأتي كما يأتي الحب الأول هكذا دون أن نبحث عنه..
ومع كل قصيدة تولد قصة حب جديدة تشبه الحب الأول في الدهشة وارتباك البدايات، وعندما تنتابني الرغبة في الكتابة أستمع إلى الموسيقى، وعندما أحببت لأول مرة كنت أستمع إلى الموسيقى طوال الوقت.
أما بالنسبة إلى الرواية فالأمر مدهش حقاً، لا أنكر أنني أفكر في أن أكتب وفق تصور دقيق للسرد دون التفريط في شاعرية اللغة.
أعرف أنه اختيار صعب من داخل جنس أدبي يفرض على الكاتب منطق الصنعة في البناء الروائي الذي لا يمكن أن يستقر على صورة شكل نهائي وجاهز؛ ذلك أن الكاتب هو من يستطيع أن يتحول إلى مهندس بارع يمجد من خلال هذا العالم المتخيل حضارة من الحضارات أو هامشا من الهوامش أو تصورا فكريا لما يمكن أن يكون عليه الإنسان في لحظات الضعف والخصاصة والانهيارات الكبرى..
لهذا يكفي أن تكتب جملة لتجد الجمل والأحداث تتناسل بعدما تخضع إلى ترتيب محكم لتشيّد عالما بأسماء وأماكن وأصوات وروائح.
إن أهم ما تتطلبه الرواية هو الوقت والمزاج والتمرن على أن نحكي دون أن نفرط في الحدث السردي؛ إنه السر وراء بناء عالم مدهش حقا بقدر ما يتعبك وأنت تتحمل شخصياته بثقلها الجسدي والنفسي والاجتماعي والثقافي يمنحك حيوات أخرى ممكنة عبر أفعالها وهي تتحول في لحظة ما أو وضعية ما إلى كائنات نابضة بالحياة، بل وشخصيات من لحم ودم وروح.
نادراً ما نرى كتاباً أو شعراء على علاقة جيدة بالتسويق و”البزنس”، لا سيما أنك حاصلة على دبلوم الدراسات العليا المتخصصة في التسويق والتجارة العالمية من المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة عبد المالك السعدي.. هل تجمعين بين ذلك في حياتك العملية.. وكيف تستفيدين من هذا المزج؟
لم أفكر يوما في الإفادة من تخصصي العلمي المرتبط بالتسويق، وأعترف أنني مقصرة إلى حد ما، على الرغم من إيماني المطلق بأن النص الجيد لا بد من أن يحظى بالإنصاف ولو تطلب ذلك سنوات عديدة..
ولعل تاريخ الأدب الإنساني حافل بمثل هذه النماذج التي استطاعت أن تسكن القلوب والمخيلة على مدى قرون من الزمن على الرغم من اختيارها للعزلة؛ وهو اختيار يأتي من طبيعة المبدع المركبة ورؤيته إلى العالم من منظور قلما يتشبث بهذا الضوء في ظل هيمنة مطلقة لأشكال معينة من التسويق.
إن ما نعيشه اليوم، يفرض على المبدع أن يناضل من أجل نصه عبر مختلف الوسائط الرقمية المتاحة بفعل طبيعة التسويق الثقافي في عالمنا العربي الذي يحتاج إلى أشكال جديدة تقربنا من هذا الجيل الجديد الذي يملك تصورا دقيقا فيما يتعلق بالحياة الافتراضية، وهو جيل يقرأ بطرق أخرى غير مألوفة تهيمن عليها ثقافة ما من التسويق دون أن ندري طبيعة المنتوج الأدبي وقيمته الإنسانية والفنية، وهذا الأمر يسائلنا جميعا من أجل حماية الذوق العام.
أصدقك القول، إن علاقتي بالنصوص الأدبية التي أكتبها ترتبط بسؤال وجودي محض بالنسبة إلي، وليست شيئا للاستهلاك يزول بزوال الحاجة الظرفية إليه، ولهذا أطمح عبر الكتابة إلى ترك أثر ما يبقى ولا يزول مهما تقادم في الزمان، وأظن أن تسويق الكتابة من مهام دار النشر..
ولكن مع تطور تقنيات التواصل يمكن للكاتب أيضا أن يسهم في عمليات التسويق لكتبه دفاعا عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو غيرها؛ وهذا ما أحرص عليه بصورة ما، وأعترف أنني لا أستطيع أن أنخرط في الثقافة الرقمية التي توظف تقنية الفيديو؛ لأن علاقتي بالكاميرات ليست جيدة؛ فأنا أحب العزلة التي تمنحني مساحات شاسعة من الكلمات والموسيقى، ولا أمانع من الظهور من حين لآخر، ومع ذلك أظن أن الظهور الدائم يستنزف طاقة الكتابة لدى المبدع الذي يحتاج إلى العزلة؛ لأن الكتابة تحتاج إلى التأمل.
هل تتأثر الثقافة بالأزمة الاقتصادية، وما التحديات أمام صناعة النشر والكتاب العربي؟
أكيد أن الثقافة تتأثر بطبيعة التحولات التي يعيشها المجتمع سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم غيرها؛ فالصناعات الإبداعية والثقافية مثلها مثل أي صناعة تتأثر بالاقتصاد؛ فإذا ارتفع سعر الورق فحتما سيرتفع سعر الكتاب أيضا.
كما أن هيمنة الصورة نفسها داخل ثقافة ما يسهم في تراجع المبيعات، وبالتالي بطء دائرة انتشار الكتاب، وخصوصا في ظل عزوف قرائي يحتاج منا جميعا إلى نضال مستميت..
وأنا متفائلة جدا في ظل وجود مبادرات قوية لدعم وتشجيع القراءة وطنيا وعربيا، ويمكن أن أقدم نموذجين من هذه المبادرات كالمشروع الوطني للقراءة الذي تسهر عليه وزارة التربية الوطنية بالمملكة المغربية، وتحدي القراءة العربي الذي تنظمه دولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى الجوائز الوطنية والعربية والدولية في مختلف الأجناس الأدبية والمواكبة الدائمة عبر الإعلام الثقافي.
مررت بمشوارك الكتابي من الشعر، ثم انتقلت إلى كتابة الرواية، كيف خضت التحولات من كتابة الشعر إلى الرواية؟
أظن أن جل الكتّاب ارتبطت بداياتهم بالشعر، وخصوصا وأن الاختبار الأول يكون في اللغة ومدى تطويعنا لها، والانتقال داخل الأجناس الأدبية هو انتقال طبيعي جدا بالنسبة إلى مبدع يعيش بين الناس ويتأثر بحكاياتهم، والبحث عن شكل يفرضه الموضوع..
فلا يمكنك أن تكتب وفق قواعد جاهزة صارمة، لأن منطق الكتابة نفسه يقوم على الحرية وخلق المعنى المتجدد، ويبقى الشكل مجرد آلية من آليات الصياغة الفنية..
وإذا جاز لي الحديث عن نفسي، فأنا لم أنتقل من الشعر إلى الرواية؛ لأنني دائمة الإقامة في الشعر إلى درجة أن الساردة في عملي الروائي اخترت لهويتها أن تكون شاعرة كي تتكلم بلغة أجيدها بما أنه عملي الأول؛ وهذا دليل على أن الشعر يسافر معي إلى أي مكان سواء أكان حقيقيا أم متخيلا.
تتعمدين من خلال نصوصك الأدبية، لتسليط الضوء على فكرة أو صورة ما لطرح الأسئلة وإيجاد الإجابات.. فهل من تفسير لذلك؟
تحضرني رواية “التحول” لفرانز كافكا التي تناقش عبر السرد سؤال الوجود الإنساني من خلال شخصية “غريغور”؛ فالرواية تصمت عن قول الكيفية التي تحول بواسطتها غريغور إلى حشرة كبيرة، ومع ذلك فإن العالم الروائي يبنى في ضوء هذا القلق الذي يتسع مع معاناة البطل في علاقته بذاته وبالآخر، وكيف تتهاوى، والعلاقات الإنسانية بفعل هشاشة الإنسان نفسه في لحظات معينة.
حين أستحضر هذه الرواية تحديدا وغيرها من الأعمال الفنية الخالدة التي تُبنى في ضوء هذا الأفق الفكري الذي يعمق فهمنا لعلاقتنا بذواتنا والكيفيات التي تجعلنا نستطيع أن نحمي تمزقاتنا الداخلية عبر وسيط السرد أو كتابة الشعر أو غيرها من الفنون التي تصور حقيقتنا وأعطابنا ومساحات الشر النائمة فينا وقوة الأمل والتحدي..
إن الكتابة الإبداعية لها القدرة على أن تحول أي موضوع إلى لحظة تأملية دقيقة وشديدة الخصوصية، أو ليس الحب والموت والألم والرغبة والكينونة موضوعات تستحق أن نخضعها إلى السؤال على نحو جمالي عبر الشخصيات والعالم الآخر الممكن.
الطبيعة في كافة الآداب الإنسانية تعد مصدراً للشعر، ويتجلى ذلك في نصوصك الأدبية، إذ لا تخلو قصيدة لك من عناصرها.. أخبرينا أكثر عن علاقتك بالطبيعة؟
إن علاقتي بالطبيعة علاقة انصهار تلبسني عناصرها وألبسها وأراها بعيون مختلفة؛ ففي كل مرة تتراءى لي على هيئة جديدة، وأجدني مترددة جدا في علاقتي بالطبيعة..
فالشجرات أراها أحيانا ريشات في أيادي المدينة، وأراها أحيانا سجائر ملفوفة تدخنها الأرض، وأراها في أحيان أخرى مشطاً يسرح شعر الهواء الذي نكشته يد الخريف، والغيوم أراها مخدات الموتى، والبحر أراه قطعة من ثوب السماء يطرزها المطر وأحيانا أراه عاشقا كبيرا أنهكه الحب تواطؤا معه يفرغ الصيادون قلبه ومرات أخرى أرى الجزر كوابيسه التي تذكره دائما أنه أغرق اليابسة.
لا أستطيع تفسير علاقتي بالطبيعة غير أنني أستطيع أن أقول إن الطبيعة تتعدد في فأراها كل مرة بشكل مختلف.
اتسمت رواية” تياترو ثرفنطيس” بطرحها للنسوية.. إلى أي مدى التحول الإيجابي للمجتمعات مرهون بواقع المرأة وتمكنها من القيام بأدوارها؟
صحيح، يمكن أن تُفهم هذه الرواية بصورة من الصور أنها تنتصر للمرأة على نحو إنساني دون أن تسقط في فخ الإيديولوجي السافر؛ فالمرأة في النهاية تعيش وضعا قاسيا في علاقتها بالحياة داخل الرواية التي تسائل ذاكرتها وحاضرها ومستقبلها، كما أنها تسعى إلى أن تقدم فهما لتاريخ ما وفي لحظة ما من أجل فهم ما مضى حتى لا نسقط في أي اختزال كيفما كان شكله أو طبيعته الفكرية..
فالساردة لا تقسو على الرجل في الرواية مادامت صورة الجد والأب تتميز بالتوازن لا الاختلال، ومع ذلك من حقها أن تعمل على تقويم طبيعة العلاقة الإنسانية والقناعات الفكرية التي تتعرض للمحو في ظل تحول ما.
لذلك يؤشر البطل التراجيدي على نزوع نحو البحث عن المال بأي ثمن مهما كانت حجم التضحيات الجسيمة دون أي اهتمام بالقيم والمبادئ، ولا أرى أن أحلام هي فتاة نسوية بقدر ما أراها إنسانة حقيقية تصور لنا ما لا يُرى في لحظات الضعف والألم والفرح والبحث عن النسيان والخوف من الذاكرة والمحو..
إن المرأة المغربية والعربية تعيش قلقها الخاص بشجاعة منقطعة النظير في ظل الهيمنة الذكورية وإن كان أبي حفظه الله إنسانا حقيقيا تعلمت منه أن التوازن هو من يمنح للإنسان الحق في أن يعيش بصورة حضارية بعيدا عن أي تقسيمات مصطنعة سرعان ما تزول.
ولا أعلم إن كنت فعلا نجحت عبر السرد الروائي في الكشف عن تلك الصور الإنسانية التي تقربنا أكثر من هذه المرأة في كينونتها وأحلامها المؤجلة.
أخيراً، ما المشاريع الأدبية التي تعملين عليها حاليا؟
أكتب الشعر أحيانا كما أكتب السرد في أحيان أخرى ولا أعرف من منهما سيكمل معي الطريق إلى أن يصير عملا مكتملا يمكنني أن أشاركه مع القراء الأعزاء الذين أفرح كثيرا بتلقي انطباعاتهم حول أعمالي وأعترف أ نني أصغي إليها بجوارحي لأنني أتعلم منها.