البتاني.. رائد الفلك الإسلامي ومؤسس الحسابات الدقيقة

مقدمة

يُعد محمد بن جابر بن سنان البتاني الحراني (ت. 317هـ / 929م) من أعظم علماء الفلك في الحضارة الإسلامية، ومن أكثرهم تأثيرًا في تطوير هذا العلم عالميًا، حتى لُقّب في بعض المصادر الغربية بـ”بطليموس العرب”. 

تميز بدقته العلمية، ومنهجه الرصين، واعتماده على الرصد والتجريب. وقد كان لإسهاماته أثر بالغ في تطوير علم الفلك الكلاسيكي في أوروبا، ما جعله محل اهتمام كبير لدى المستشرقين ومراكز البحوث. 

تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على سيرته، وبيئته العلمية، ومنهجه، ومؤلفاته، وآثاره العلمية في العالمين الإسلامي والغربي، من خلال منظور أكاديمي موثّق.

السيرة الذاتية

ولد البتاني عام 244هـ / 858م في مدينة حرّان، الواقعة في أعالي بلاد ما بين النهرين (الجزيرة الفراتية)، وهي منطقة اشتهرت منذ القدم بالمعرفة الفلكية والرياضية، وتأثرت بالتراث الصابئي واليوناني. واشتهر والده “جابر بن سنان” كذلك بعلم الفلك، ويبدو أن الابن ورث منه هذه النزعة العلمية.

البيئة التي نشأ فيها

نشأ البتاني في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، وخصوصًا في ظل الدولة العباسية، التي احتضنت العلماء وشجعت الترجمة والتأليف، لا سيما في علوم الفلك والرياضيات. وكانت حرّان مركزًا فكريًا غنيًا، تضم مدارس صابئية ويونانية قديمة، ساعدت في تشكيل البيئة العلمية التي ترعرع فيها البتاني. كما أن انتشار الرصد الفلكي، والاهتمام بالتقاويم، وحاجة المسلمين لتحديد مواقيت الصلاة والقبلة، جعلت من علم الفلك علمًا عمليًا مطلوبًا.

أساتذته

لم تصلنا أسماء محددة لأساتذته، إلا أن بعض المصادر تشير إلى تأثير الرازي والفرغاني وبطليموس في تكوينه العلمي. ويبدو أن البتاني تأثر كثيرًا بـ”المجسطي” لبطليموس، لكنّه تجاوزه في كثير من النتائج، وقدم تصحيحات علمية دقيقة أثارت إعجاب العلماء من بعده.

المدرسة العلمية التي انتمى إليها

ينتمي البتاني إلى مدرسة “الرصد والتجريب”، وهي المدرسة التي اعتمدت على المشاهدة الدقيقة للظواهر الفلكية وتسجيل النتائج، بدلاً من الاكتفاء بالنقل عن القدماء. وقد أسس مرصدًا خاصًا به في منطقة الرقة، قرب نهر الفرات، أنجز فيه رصده الشهير الذي استمر نحو 40 عامًا.

منهجه العلمي

كان منهج البتاني علميًا دقيقًا، يقوم على الرصد العملي والتحقق من الفرضيات، ومقارنة النتائج. وقد وظّف الرياضيات – وخاصة حساب المثلثات – في دراسة الظواهر الفلكية، ما جعله من أوائل من استخدم الجيب (sine) بدلًا من الوتر (chord) المستخدم عند اليونان. كما اتسم منهجه بالحيادية العلمية، فلم يتردد في مخالفة بطليموس إذا وجدت الملاحظة تعارضًا.

إنجازاته العلمية

من أبرز إنجازاته:

  • حسابه الدقيق لطول السنة الشمسية (365 يومًا و5 ساعات و46 دقيقة و24 ثانية)، وهو قريب جدًا من التقديرات الحديثة.
  • اكتشافه لتغير ميل محور الأرض (المسؤول عن تغير الفصول).
  • تصحيحه لبعض أخطاء بطليموس في مراكز الكواكب وحركاتها.
  • تقديمه جداول فلكية دقيقة استخدمها الأوروبيون حتى القرن السادس عشر.
  • تطويره لحساب المثلثات الكروية.
  • حسابه لزوايا انحراف القمر والكواكب بدقة.

مؤلفاته

أعظم مؤلفاته كتابه الشهير:

الزيج الصابئ: وهو موسوعة فلكية ورياضية ضخمة، جمع فيها نتائجه الرصدية والجداول الفلكية. تُرجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر بعنوان De Scientia Stellarum، وطُبع مرات عديدة.

وله كذلك:

  • رسالة في علم النجوم.
  • رسالة في ظاهريات الفلك.

أثره في الحضارة الإنسانية

بلغ تأثير البتاني ذروته في العصور الوسطى، حيث اعتمد عليه علماء أوروبا مثل كبلر وكوبرنيكوس، واستفاد من جداوله تيخو براهي. وقد استشهد كوبرنيكوس ببعض نتائجه في ثورته على نظرية مركزية الأرض. ويكفي أن نقول إن كتابه “الزيج” ظل يُدرّس في أوروبا نحو خمسة قرون، مما يجعله أحد الجسور الكبرى التي عبر منها العلم الإسلامي إلى النهضة الأوروبية.

آراء العلماء المسلمين فيه

امتدحه العلماء المسلمون كثيرًا، فقال فيه ابن خلدون: “له زيجه مشهور، وهو أحسن الزيجات، وأصحها حسابًا”. كما ذكره الصفدي والبيهقي والقفطي وغيرهم، وأشادوا بدقته وحسن منهجه.

آراء المستشرقين فيه

أشاد به المستشرقون ووصفوه بأنه “بطليموس الثاني”، وقال عنه كارلو نلينو: “هو أعظم الفلكيين العرب على الإطلاق”، وأكد على ريادته في حساب المثلثات الكروية. كما أفرد له جورج سارتون صفحات طويلة في كتابه “المدخل إلى تاريخ العلوم”، واعتبره من بناة العلم العالمي.

مراكز البحوث والجامعات الغربية

تهتم عدة جامعات أوروبية وأمريكية بدراسة أعمال البتاني، أبرزها:

  • جامعة كامبريدج (قسم تاريخ العلم)
  • جامعة هارفارد (مركز دراسات الشرق الأوسط)
  • معهد الدراسات العليا في باريس (CNRS)
  • جامعة بولونيا (قسم الفلك والرياضيات الإسلامية)

وتُدرس بعض أعماله ضمن مناهج “تاريخ العلم عند المسلمين”، و”الرياضيات العربية في العصور الوسطى”.

الرسائل العلمية التي كُتبت عنه

أُلِّفت عنه رسائل جامعية متعددة، منها:

“البُتّاني وإسهاماته في الفلك الكروي”، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، 2010.

“Zij of al-Battani: A Critical Edition and Analysis”, PhD Thesis, University of London, 2001.

“The Trigonometric Methods of al-Battani”, PhD, University of Toronto, 1987.

“Transmission of Islamic Astronomy to Latin Europe: The Case of al-Battani”, University of Leiden, 1994.

خاتمة

البتاني شخصية علمية رائدة، تمثل تجليًا واضحًا لتكامل العقل الفلكي الرياضي في الحضارة الإسلامية، وقد وحّد بين الدقة الرصدية والتحليل الرياضي، وسبق عصره في كثير من القضايا. ولم يقتصر تأثيره على الشرق، بل امتد إلى الغرب ليكون من روافد النهضة العلمية الحديثة. إن دراسة البتاني ليست مجرد استذكار لتاريخ علمي، بل هي احتفاء بالمنهج العلمي التجريبي، وإدراك لدور العلماء المسلمين في بناء الحضارة الإنسانية.

الحواشي والمراجع

البتاني، الزيج الصابئ، تحقيق: أحمد يوسف، دار الرشاد، القاهرة، 1995.

ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة.

القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تحقيق: يوسف زيدان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

George Sarton, Introduction to the History of Science, Vol. II, Carnegie Institution, 1931.

Carl Nallino, Al-Battani, astronomo arabo del secolo IX, Roma, 1899.

Sezgin, Fuat. Geschichte des arabischen Schrifttums, vol. 6, Brill, Leiden, 1978.

Saliba, George. Islamic Science and the Making of the European Renaissance, MIT Press, 2007.

Kennedy, Edward. “Al-Battani”, Dictionary of Scientific Biography, Vol. 1, Charles Scribner’s Sons, New York, 1970.

لقراءة المزيد من المقالات ذات الصلة: