
“الحروف التائهة”.. من هنا عرفتُ وليد إخلاصي
يتناول الأديب السوري الراحل وليد إخلاصي شخصياته السبع في روايته “الحروف التائهة”، مجسداً حياتهم في مدرسة التجهيز الأولى بمدينة حلب، مبيناً نقاط التشابه بينهم في نقطة الالتقاء بفضيلة؛ الفتاة التي نالت حظها من السرد والتركيز على الجانب الأنثوي فيها، دون نسيان شخصية والدها سامي أبو خشبة ووالد حامد كذلك الشيخ عصفور..
في هذا تمهيد لطيف في تناول علاقة التاريخ بالإنسان، والأهم هو الصلة الوثيقة بين تطور الإنسان ومجرى سريان الأحداث التاريخية، لتبدأ الحبكة بعد ذلك بتوضيح نقاط الاختلاف بين الأصدقاء السبعة؛ حامد، رشيد، مجاهد، سليم، هايل، أحمد، تركي، سواء من حيث الانتماء أو الاعتقاد في أمور الحياة المعقدة..
ولتفادي الدخول إلى دقائق وجزئيات كل شخصية وعلاقتها بالأخرى، وحرصاً على عدم تشابك هذه العلائق، تمت عنونة الفقرات، بحيث سهلت القراءة وصارت الطلاسم تفك بشكل سلس للغاية.
دخول شخصية فاطمة تدفع بالأحداث إلى حيث التعقيد نوعاً ما، رغم أن طيف فضيلة لايزال يسبح في خيال كل مشهد، وإن اختلف الرأي حول ماهية الشخصية المحورية ما بين فضيلة وحامد، فكل شخوص العمل أبطال، ولم يتوقف مستقبل أي منهم على الآخر، وإن كانت فضيلة هي محور تفكيرهم..
لكن الأمور سارت عكس ذلك، لتدخل مرحلة الترقب وإعلان النتائج أو المصير الحتمي ولا سيما بعد موت الشيخ عصفور، وربما تكون فكرة استلام الابن مقام الأب نمطية نوعاً ما، إذ لم تكن استثنائية، ورغم الحيرة القليلة إلا أنه حسم مصيره نهائياً حامد.

هايل يصبح طبيباً في مستوصف خيري ومنتم لحركة إرهابية، وتركي ضابط برتبة نقيب يتزوج من فضيلة بعد محاولات عدة مستغلاً منصبه الحزبي، وبعد انقلاب الأمور يهرب إلى تركيا ويعود ليعتقل ثانية، في حين أن أحمد يصبح رساماً ويقيم في روما مع صديقته ماريانا..
أما مجاهد فيدير داراً للنشر في بيروت ومتزوج من ابنة خاله قمر، وسليم محام متزوج من ابنة خاله أم الخير، وهو مسؤول في الحكومة، في حين أن رشيد شيوعي سابق يعمل مهندساً في البلدية ثم مع شركة خليجية لاحقاً، علماً أن حامد يتزوج بعد وفاة زوجته من فاطمة التي تربت منذ صغرها في كنف عائلة الشيخ عصفور.
تدخل شخصية الصحفي وهب الذي كان أستاذاً لمادة التاريخ في تلك الثانوية، ويُحقّق معه في مكتب المقدم تركي.
إن الدخول إلى عوالم الشخصيات كان مختصراً وشاملاً وكافياً في آن واحد، وتحديد مصائرها جاء في الوقت المناسب من مبدأ أن الحياة مستمرة بتفاصيلها وتشعباتها، وليس من الضروري أن نرى نهاية حتمية لها، والنهاية القريبة من المأساة كانت حاضرة في الفقرة الأخيرة من الكتاب، حيث تم التطرق إلى النهايات الفرعية واحدة تلو الأخرى، بشكل تسلسلي قريب من التدرج الهرمي من الأعلى إلى الأسفل.

فضيلة؛ تلك الشخصية التي قد اعتبرها محورية في أحايين كثيرة هي صورة للمرأة العربية وصورة لنظرة الشباب إليها كلقمة سائغة، رغم عقلية هؤلاء الشباب ومستوى ثقافتهم ومعرفتهم، فكما هو واضح في سرد المؤلف لعالمها الخاص فهي لا تمتلك أدنى مستوى من التفكير إلا الاهتمام بمظهرها الخارجي فقط.
الصراع لم يكن ظاهراً بقدر ما كان كامناً داخل النفوس، فالصراع كان بين النفس والخيال من جهة والعقل والقلب من جهة أخرى والغرائز الجنسية من جهة ثالثة، وهذا يوصلنا بشكل أو بآخر إلى الوحدة القياسية والمعيارية المتشابهة ما بين عواطف وعقول الشخصيات السبع تجاه أحلامهم، في حين أن الحاجات التي احتوتها الشخصيات كانت منطقية أيضاً تماشياً مع الأحداث السياسية ونوعية المهن المصحوبة أيضاً بسلوك قويم ناتج عن خلفيات اجتماعية مهد لها المؤلف.
الكلمات جاءت جزلة وسهلة أيضاً، فها هو المؤلف يقول: “كانت فاطمة تسد بجسدها الناحل جانباً كبيراً من الفراغ بين أسياخ الحديد التي انتصبت أمام النافذة الصغيرة التي تعلو باب الدار”.
ربما حاول وليد إخلاصي أن يقول في روايته (الحروف التائهة)،، أن “الصداقة تعلو كل الثقات وتسمو على مجمل الشكوك، ولاسيما في مجتمعنا الشرقي عند رؤية رجل غريب مع الزوجة كمثال على الصداقة الخالصة”.
الكتاب صدر عن وزارة الثقافة السورية في دمشق عام 2007، ويضم أربعة محاور: “البدايات – الزمن يمشي على هواه – نهر الحياة تتلاطم مياهه ولكنه لا يتوقف – بما تشتهي ولا تشتهي السفن”.
ملاحظة: قد يتساءل البعض عن جدوى الرجوع إلى كتب قديمة وتحليلها. وردّ “بزنس برس” هو أن الكتاب بوصفه الوسيلة الثقافية الأولى لا يبتعد عن كونه خارجاً من إطار الزمان والمكان.. وتبقى المواضيع المطروحة هي الحكم، علماً أن هذا المقال سبق ونشرته لي إحدى الصحف السورية، قبل أن يختفي موقعها الإلكتروني.
لقراءة المزيد من المواد الصحفية ذات الصلة في موقع “بزنس برس”: