
ثابت بن قرة.. الرياضي الفذ والعقل الموسوعي
مقدمة
يُعد ثابت بن قرة (ت. 288هـ/901م) أحد أبرز رموز النهضة العلمية في العصر العباسي، فقد جمع بين علوم الرياضيات والفلك والفلسفة والطب، وكان له دور أساسي في ترجمة وتطوير الفكر اليوناني ضمن السياق الإسلامي. لقد مهّد بإسهاماته الطريق لعلماء كبار من بعده، وامتد تأثيره إلى أوروبا، حيث اعتمد عليه علماء النهضة الغربية في كثير من أعمالهم.
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز الجوانب المختلفة من شخصية ثابت بن قرة العلمية، من خلال تتبع سيرته، وبيئته، ومدرسته الفكرية، وتحليل منهجه، وتوثيق إنجازاته، ومؤلفاته، ومكانته في الحضارة الإسلامية والعالمية، مع الإشارة إلى الدراسات الحديثة حوله في مراكز البحث والجامعات.
السيرة الذاتية
اسمه الكامل: ثابت بن قرة بن مارون الحراني الصابئي. وُلد في مدينة حرّان سنة 221هـ/836م، لعائلة تنتمي إلى الديانة الصابئية، وهي من الطوائف التي كان لها اهتمام خاص بعلم الفلك.
تلقى علومه الأولى في بلدته، وكان يجيد عدة لغات منها السريانية واليونانية والعربية، وهو ما ساعده لاحقًا في نقل المعارف اليونانية إلى العربية. انتقل إلى بغداد، عاصمة العلم والفكر، فنبغ في علوم متعددة، واحتضنه الخليفة العباسي المتوكل، ثم المعتمد والمعتضد.
البيئة العلمية التي نشأ فيها
نشأ ثابت في حرّان، التي كانت مركزًا دينيًا وثقافيًا للصابئة، ومعروفة باهتمامها بعلم الفلك والرياضيات. لكن انتقاله إلى بغداد شكّل النقلة الكبرى في مسيرته العلمية، حيث كانت المدينة حينها تحتضن بيت الحكمة، أكبر مركز للترجمة والبحث العلمي في العالم الإسلامي. وقد ساعده انفتاح الدولة العباسية على العلماء من مختلف الديانات على العمل بحرية وتطوير علومه.
أساتذته وتأثره بهم
تتلمذ ثابت في البداية على شيوخ الصابئة في حرّان، ثم التقى في بغداد بالعالم الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، كما استفاد من مجالس الفلاسفة والمترجمين. لم يُعرف له أستاذ مباشر بالاسم في كتب التراث، لكن من المؤكد أنه قرأ أعمال إقليدس وبطليموس وأرخميدس، واطّلع على ترجمات أرسطو وأفلاطون، مما شكّل خلفيته العلمية والفلسفية.
المدرسة الفكرية والعلمية
انتمى ثابت إلى المدرسة العقلية الرياضية، وكان من رواد المدرسة الفيثاغورية الحديثة في الإسلام. ولم يكن مجرد ناقل للتراث اليوناني، بل ناقدًا ومطوّرًا له. وقد جمع بين الرياضيات التطبيقية والنظرية، والفلك الرصدي والحسابي، مع إدراك عميق للفلسفة الطبيعية. ويمكن تصنيفه ضمن التيار العلمي الذي مثله لاحقًا البيروني وابن الهيثم.
المنهج العلمي لثابت بن قرة
تجلّى منهجه في اعتماده على البرهان الرياضي الصارم، وحرصه على التوفيق بين الرياضيات والفلك، كما طوّر المنهج المقارن في الترجمة، إذ كان يعقد المقارنة بين النسخ اليونانية والسريانية والعربية. في الطب، تأثر بالمنهج الأبقراطي، لكنه أضاف إليه ملاحظاته التجريبية. كما تميّز بالدقة الفلسفية، فكان يربط بين المفاهيم الرياضية والطبيعية من خلال تفسير عقلاني.
الإنجازات العلمية
في الرياضيات: طوّر نظرية الأعداد، ودرس الكسور، وأسهم في الهندسة الإقليدية، وله إضافات على نظرية فيثاغورس، ويُعد أول من استخدم مفهوم العدد السالب في بعض التطبيقات.
في الفلك: قام بتعديلات على جداول بطليموس الفلكية، وأجرى أرصادًا دقيقة، وكتب في حركة الكواكب وميل الشمس.
في الطب: كتب مؤلفات في الحُمّى والتشريح والأدوية.
في الفلسفة: كتب رسائل في النفس والوجود، مستفيدًا من المنطق اليوناني ومن فلسفة أرسطو.
مؤلفاته
بلغت مؤلفاته أكثر من 150 عملًا، لم يصلنا منها إلا القليل، ومن أبرزها:
- في المسائل العددية
- كتاب في شكل الكرة
- في اختلاف مناظر القمر
- كتاب في سبب حدوث الأنهار
- كتاب في المزاج
- شرح كتاب إقليدس
- كتاب في النسب الموسيقية
كما ترجم كتبًا كثيرة عن اليونانية والسريانية، منها أعمال لأرخميدس وجالينوس وأفلاطون.
أثره في الحضارة الإنسانية
كان ثابت أحد أبرز الجسور بين الفكر اليوناني والعلم الإسلامي، ومن خلاله وصلت أفكار إقليدس وأرخميدس إلى العالم الإسلامي ثم إلى أوروبا. استفاد من أعماله علماء أمثال الكندي، والبيروني، وابن الهيثم، كما استندت إليه مدارس النهضة الأوروبية، خاصة في إيطاليا خلال القرن الخامس عشر. واعتبره كثير من المؤرخين المؤسس الحقيقي للهندسة الرياضية في الإسلام.
رأي علماء المسلمين فيه
أشاد به العلماء المسلمون كأحد أعلام الرياضيات والفلك. فقد أثنى عليه ابن النديم في الفهرست، وامتدحه ابن القفطي والذهبي، واعتبروه من كبار المترجمين والعلماء. ولم يكن هناك أي طعن في دينه، رغم كونه صابئيًا، لأن العلماء المسلمين قدّروا علمه وخلقه، وذكروا أنه كان صادقًا أمينًا في نقله وترجمته.
رأي المستشرقين فيه
اهتم المستشرقون بثابت اهتمامًا كبيرًا، ودرسوا أعماله في إطار حركة الترجمة العلمية. وقد تناولته موسوعة Encyclopedia of Islam وDictionary of Scientific Biography. واعتبره المستشرق الألماني كارل بروكلمان من أعظم المترجمين في الإسلام، بينما وصفه جورج سارتون بأنه “رائد في العلوم التطبيقية والرياضية قبل عصره بقرون”.
مراكز البحوث والجامعات الغربية
دُرست أعماله في جامعات مثل هارفارد والسوربون وأكسفورد، وأُدرجت نصوصه ضمن مقررات تاريخ العلوم. وتُعد جامعة فرانكفورت من المؤسسات التي أولت أعماله اهتمامًا خاصًا، وأعادت طبع بعض نصوصه الرياضية. كما خصصت مراكز دراسات الشرق الأوسط في أمريكا وأوروبا أوراقًا بحثية حوله ضمن مؤتمرات علمية.
الرسائل العلمية التي كُتبت عنه
من أبرز الرسائل العلمية حول ثابت:
“ثابت بن قرة والرياضيات التطبيقية”، دكتوراه، جامعة القاهرة.
“ثابت بن قرة ونظرية النسب الموسيقية”، رسالة ماجستير، جامعة طهران.
“The Role of Thabit ibn Qurra in Preserving Greek Astronomy”, PhD thesis, University of Cambridge.
“Philosophical Notions in Thabit ibn Qurra’s Treatises”, MA Thesis, Sorbonne University.
خاتمة
لقد مثّل ثابت بن قرة نموذجًا للعالم الموسوعي الذي جمع بين الترجمة والإبداع، بين الرياضيات والفلك، بين الطب والفلسفة. ولم يكن مجرد ناقل للعلوم اليونانية، بل كان مبدعًا ومطوّرًا، وشكّل نقطة محورية في تاريخ العلم الإسلامي والإنساني. وإنصاف سيرته وإبراز إسهاماته مسؤولية تقع على عاتق الأكاديميين المعاصرين لإعادة الاعتبار لعقول عظيمة ساهمت في صناعة الحضارة.
المراجع والحواشي
ابن النديم، الفهرست، تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971.
ابن القفطي، إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تحقيق ج. لِيبسيوس، ليدن، 1903.
الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، ط.9، بيروت، 1413هـ.
George Sarton, Introduction to the History of Science, Vol. 1, Harvard University Press, 1927.
Carl Brockelmann, Geschichte der arabischen Litteratur, Brill, 1937.
Roshdi Rashed, Les mathématiques infinitésimales du IXe au XIe siècle, Brill, 1996.
A.I. Sabra, “Thabit ibn Qurra,” in Dictionary of Scientific Biography, Vol. 13, Charles Scribner’s Sons, 1976.
Nasr, Seyyed Hossein, Science and Civilization in Islam, Harvard University Press, 1968.
لقراءة المزيد من المقالات ذات الصلة: