البيروني.. مؤسس العلوم التجريبية والجغرافيا الفلكية

السيرة الذاتية

هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (973م – 1048م)، أحد أعظم العلماء المسلمين في التاريخ، ومن أبرز الشخصيات الموسوعية التي أسهمت في إرساء دعائم العلوم الطبيعية والفكرية في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. 

وُلد في مدينة كاث بخوارزم (أوزبكستان حاليًا) وعُرف بلقب “البيروني” نسبةً إلى منطقته. كان رحّالةً في طلب العلم، وعمل في بلاط السلاطين، حيث أتاح له ذلك الاطلاع على ثقافات متعددة والتفاعل مع علماء مختلف التخصصات.

رسم تخيلي للبيروتي مشتق من طابع سوفياتي - ويكيبيديا
رسم تخيلي للبيروني مشتق من طابع سوفياتي – ويكيبيديا

نشأته والبيئة التي عاش فيها

نشأ البيروني في بيئة غنية علميًا وثقافيًا. كانت خوارزم مركزًا حضاريًا زاهرًا وميدانًا للعلوم والآداب، مما جعله ينهل من مختلف المعارف منذ صغره. عاصر دولة السامانيين والغزنويين، ما أتاح له التواصل مع ثقافات العالم الإسلامي والهنود والفرس.

أساتذته وتلاميذه

كان البيروني تلميذًا نجيبًا لعلماء بارزين في عصره. تعلم الفلك والرياضيات على يد أبي نصر العراقي، ودرس الهندسة على يد البوزجاني. ومن أساتذته أيضًا أبو سعيد السجزي الذي أثر في منهجه العلمي. أما تلاميذه، فقد ترك إرثه العلمي بصمات واضحة على علماء عظماء مثل نصير الدين الطوسي وعمر الخيام، الذين استكملوا بناء صروح العلم الإسلامي على أسسه.

المعارف والعلوم التي تميز بها

كان البيروني عالمًا موسوعيًا بارعًا في الفلك، والجغرافيا، والرياضيات، والصيدلة، والتاريخ، واللغة. وقد تبنى المنهج العلمي القائم على الملاحظة الدقيقة والتجربة، مما جعله سابقًا لعصره بقرون. تميز بمعرفته الدقيقة بالأديان والثقافات المختلفة، خاصة الهندية، حيث أمضى سنوات في دراسة حضارتها.

إنجازاته

قياس محيط الأرض: استخدم البيروني الزوايا المثلثية ليقيس محيط الأرض بدقة مذهلة، وهو إنجاز اعترف به العلماء المعاصرون.

اكتشافات في الكثافة النوعية: أجرى تجارب رائدة لقياس الكثافة النوعية للمعادن المختلفة باستخدام الماء.

أبحاث فلكية دقيقة: طور نظريات حول دوران الأرض حول محورها وموقعها في الكون.

التقويمات الزمنية: قارن بين التقاويم المختلفة ووضع أسسًا دقيقة لضبط القياس الزمني.

الخرائط الجغرافية: رسم خرائط استندت إلى قياسات دقيقة، وسبق عصره في التفكير بأبعاد الكرة الأرضية.

مؤلفاته

خلف البيروني مجموعة ضخمة من المؤلفات التي لا تزال موضع دراسة وإعجاب. ومن أبرزها:

كتاب “القانون المسعودي في الهيئة والنجوم”: يُعد من أعظم كتب الفلك في التاريخ الإسلامي. تناول فيه مواضيع مثل حركة الكواكب، المثلثات الكروية، ومسائل رياضية وفلكية دقيقة.

كتاب “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”: موسوعة استثنائية في دراسة الهندوسية، شملت أديانهم، فلسفتهم، لغتهم، وعاداتهم، وقدمه بأسلوب علمي خالٍ من التعصب.

كتاب “الآثار الباقية عن القرون الخالية”: دراسة شاملة عن تقاويم الأمم القديمة وعقائدهم الفلكية، مع رصد شامل لظواهر الخسوف والكسوف.

كتاب “الصيدنة في الطب”: موسوعة في علم الصيدلة تضمنت وصفًا دقيقًا للنباتات الطبية والعلاجات الطبيعية.

كتاب “الاستيعاب في صنعة الإسطرلاب”: دليل عملي لشرح كيفية صنع واستخدام الإسطرلاب، الأداة الرائدة في علم الفلك.

كتاب “الجماهر في معرفة الجواهر”: دراسة تفصيلية عن الأحجار الكريمة والمعادن، مع تصنيف علمي ودقيق لكل منها.

ماذا قدم البيروني للإنسانية؟

نشر المنهج العلمي: كان البيروني من أوائل العلماء الذين اعتمدوا على الملاحظة والتجربة كأدوات أساسية في البحث.

التواصل الحضاري: ساهمت دراساته المقارنة بين الثقافات والأديان في تعزيز فهم أعمق للإنسانية.

إرساء قواعد علوم حديثة: وضع أسس علم الجغرافيا الفلكية، وساهم في تطور علم الفيزياء والكيمياء.

إرث علمي دائم: مؤلفاته لا تزال تُدرس وتعتبر مرجعًا رئيسيًا في العديد من التخصصات.

‏البيروني في عيون العلماء المسلمين

كان البيروني مصدر إعجاب لعلماء عصره ومن جاء بعده. قال عنه ابن سينا: “البيروني هو أعظم عقل أنجبته الإنسانية”. وذكره المؤرخ القفطي بأنه “نجم العلوم الزاهر في سماء الحضارة الإسلامية”.

البيروني في عيون المستشرقين

امتدح المستشرقون البيروني وأبرزوا مكانته الفريدة في التاريخ العلمي. وصفه المستشرق الأمريكي جورج سارتون بأنه “من أعظم العقول الموسوعية التي عرفتها البشرية”. واعتبره كارل بروكلمان “الرائد الذي استحق لقب مؤسس العلوم التجريبية”. وأشاد المؤرخ البريطاني إدوارد براون بموضوعيته وانفتاحه الثقافي.

حديث الجامعات الغربية المرموقة عنه

تحتفظ الجامعات الغربية مثل جامعة أكسفورد وهارفارد بمؤلفات البيروني كمراجع في مناهجها الدراسية. يُدرّس كتابه “تحقيق ما للهند” في أقسام الأنثروبولوجيا والفلسفة الشرقية. كما تحمل العديد من المراكز البحثية اسمه تكريمًا لإسهاماته الخالدة.

الخاتمة

لم يكن البيروني مجرد عالم، بل كان موسوعة متكاملة جسّدت روح الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها. ما قدمه للبشرية لا يزال يلهم الباحثين، ويشهد على أن الحضارة الإسلامية كانت نموذجًا حيًا للإبداع والابتكار الذي تجاوز حدود المكان والزمان.