العلاقة “الوثيقة” بين أزمة المناخ وارتفاع الأسعار
عندما تفكر في تغير المناخ، ماذا يتبادر إلى ذهنك؟ موجات حارة، أمطار غزيرة، حرائق، ارتفاع منسوب سطح البحر، أم أعاصير شديدة؟
لا يؤدي المناخ “المتطرف” إلى حدوث كوارث طبيعية متكررة بشكل متزايد فحسب، بل إلى زيادة شدة وتواتر الظواهر الجوية المتطرفة المختلفة، ما يشكل تهديداً لإنتاج الغذاء.
إن الحرارة المفرطة والبرد غير المتوقع والجفاف والفيضانات والأعاصير وحرائق الغابات لها تأثير كبير على تكلفة الغذاء وتوافره، وكلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف معيشتك الأساسية.
وفي كل مرة تذهب فيها إلى السوبر ماركت تقريباً؛ ستدرك أكثر أن التسوق أصبح أكثر تكلفة، حيث ارتفعت الأسعار بشكل كبير في كل مكان تقريباً.
ومن المعتاد تماماً أن تتقلب أسعار المواد الغذائية جنباً إلى جنب مع المواسم، ولكن يبدو أن أسعار الغذاء ستشهد طفرة ارتفاع مع نقص الإمدادات، ليتمثل الأثر الاقتصادي المباشر للتغيرات المناخية في القطاع الزراعي والتي جعلت من محاصيل زراعية بعينها عرضه للاختفاء وأخرى لتراجع الإنتاج..
كما تؤدي تبعاته إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدهور الإنتاجية في بعض الحالات، ويتم غالباً نقل عبء الأزمة إلى المستهلكين، من خلال زيادة الأسعار، خاصةً في الدول الفقيرة التي تشعر بآثار ارتفاع الأسعار بشكل أكبر، لكن جميع الدول ستتأثر بالتضخم الناجم عن المناخ.
سجلت الأسعار العالمية للسلع، مثل الحبوب والزيوت النباتية أعلى مستوياتها العام الماضي، وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو). وهناك إجماع متزايد على أن تغير المناخ يؤثر بالفعل على المحاصيل وبالتالي الأمن الغذائي.
ولكن ليست كل المحاصيل معرضة للخطر على قدم المساواة؛ فتشير دراسة جديدة نشرتها الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) في مجلة “نيتشر فود” العلمية إلى أنه بسبب الكميات الكبيرة من انبعاثات الغازات الدفيئة، قد يكون لتغير المناخ تأثير كبير على إنتاج الذرة والقمح في عام 2030، ومن المتوقع أن ينخفض إنتاج الذرة بنسبة 24%، في حين من المرجح أن يرتفع إنتاج القمح بنحو 17%..
من المهم ملاحظة أن تباين ظروف درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار تؤثر على نمو القمح وإنتاجه.
وبشكل عام، لا يزال من المحتمل أن يتأثر العديد من غلات المحاصيل بتغير المناخ، ابتداءً من المحاصيل الغذائية الأساسية وحتى النقدية التي تعزز الحياة مثل القهوة والشوكولاتة..
ومن بين أبرز المحاصيل الزراعية والكائنات الحية التي قد تواجه ارتفاعاً بشدة في الأسواق العالمية نتيجة لتغير المناخ على سبيل المثال:
القمح: يعد القمح مصدراً مهماً للتغذية على مستوى العالم. ومع ذلك، فإن تغير المناخ يؤثر على إنتاج وعرض الطلب على هذه السلعة الغذائية الرئيسية في المناطق الرئيسية المنتجة للقمح، حيث تتأثر الصين بهطول أمطار غزيرة وارتفاع نسبة الرطوبة، ما يؤثر على ملايين الأطنان من القمح قبل الحصاد مباشرة.
وفي الوقت نفسه، يتأثر محصول القمح في كل من الولايات المتحدة والأرجنتين، والتي تعد أكبر منتج للقمح في أمريكا الجنوبية بموجة جفاف شديدة، وشهدت أوكرانيا انخفاضاً كبيراً في إنتاج القمح منذ الغزو الروسي لها..
إذاً، من المهم ملاحظة أن تباين ظروف درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار تؤثر على نمو القمح وإنتاجه بشكل مختلف في المناطق المختلفة، ومن المتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى تغير كبير في سعره مستقبلاً.
الكاكاو: أنماط الطقس المتقلبة في أكبر الدول المنتجة للكاكاو في غانا وساحل العاج أثرت على أسعار السلع الأساسية الدولية، حيث شهدت الدولتان اللتان تنتجان ما يقرب من 60% من إنتاج الكاكاو العالمي هطول أمطار غزيرة تسببت في إتلاف المحاصيل وأدت إلى تعفن نباتات الكاكاو بسبب مرض “القرون السوداء”.
وتكلفة الكاكاو تزيد ثلاث مرات عما كانت عليه قبل عام بسبب تغير المناخ وتأثير ظاهرة النينيو المناخية في مناطق إنتاجه، ويمكن ملاحظة ارتفاع أسعار الكاكاو في جميع أنحاء العالم، وقد تصبح الشوكولاتة وما شابهها سلعاً فاخرة مرة أخرى قريباً.
وتقع سويسرا المشهورة بصناعة الشوكولاتة في قلب هذه الأزمة، إذ يجد صانعو الشوكولاتة أنفسهم أمام واقع قاسٍ متمثل في أن العنصر الرئيس في منتجاتهم الشهية أصبحت نادرة ومكلفة جداً.. فهل سيستمر المستهلكون في الاستمتاع بتأثيرات الشوكولاتة المعززة للمزاج في ظل تصاعد أسعارها إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق؟
القهوة: يُفرض تغير المناخ العالمي تحديات كبيرة على قطاع القهوة وقد يؤدي إلى تحول أحد المشروبات الأكثر طلباً إلى سلعة فاخرة تقتصر على الأغنياء فقط، حيث يتسبب تغير المناخ في تدمير مناطق النمو الرئيسية المنتجة لها في العالم، وهي البرازيل وفيتنام وكولومبيا وإندونيسيا، ما أثر سلباً على إنتاج القهوة، مع الأخذ في الاعتبار اتجاهات الاستهلاك المتزايدة..
وبالتالي، ارتفعت أسعار حبوب البن إلى مستويات قياسية واهتزت أسواق السلع العالمية إلى مستوى جديد في أكثر من ست سنوات، وبذلك قد يصبح مشروبك المستقبلي المفضل مراً وباهظ الثمن.
زيت الزيتون: يعد زيت الزيتون مثالاً على كيفية تأثير التضخم المناخي على مستهلكي منتج الأجداد، والذي يأتي بشكل رئيس من إسبانيا واليونان وإيطاليا وتونس والمغرب، حيث تشير الاتجاهات الأخيرة بالفعل إلى زيادة ملحوظة في درجات حرارة موسم النمو..
هذا فضلاً عن التغيرات في أنظمة هطول الأمطار في معظم أنحاء البحر المتوسط، ما أدى إلى إتلاف أشجار الزيتون والتسبب في ضعف المحصول وبالتالي ضعف الإنتاج، كما ارتفعت أسعار زيت الزيتون إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
الأرز: تتزايد حدة وتواتر الأحداث المناخية المتطرفة، مثل الجفاف والفيضانات والعواصف، وتؤدي التغيرات في أنماط الطقس إلى تغيرات طويلة المدى في المناخ، ويعد الأرز معرّضاً بشكل خاص لهذه التغييرات..
ففي فترات الجفاف، قد لا يكون هناك ما يكفي من الرطوبة للسماح للشتلات بالنمو، وفي أحيان أخرى يكون الماء أكثر من اللازم، ما يعني غرق النباتات، وحتى ارتفاع درجات الحرارة يهدد القدرة على زراعة الأرز، ما يقلل بشكل كبير من إنتاجية محاصيل الأرز، خاصة أن سوق الأرز ليس لديه الكثير من الفائض في العرض لتلبية الطلب..
وهذا يعني أنه عندما تنخفض إنتاجية الأرز في منطقة واحدة، تتأثر بقية سلسلة التوريد، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص العرض.
البطاطا: هي أكثر المحاصيل غير الحبوبية شيوعاً عالمياً، وتعد واحدة من أكثر المحاصيل عرضة للخطر في المناخات المتغيرة، مع أحداث مثل الجفاف طويل الأمد والحرارة الشديدة والصقيع..
وشهدت كل من فرنسا والمملكة المتحدة وبلجيكا وهولندا أمطاراً غزيرة في عام 2023 أدت إلى غمر حقول البطاطس أو البطاطا، وانخفاض الإمدادات وارتفاع الأسعار..
ويعد الارتفاع الكبير في أسعار البطاطا أحدث مثال على العدد المتزايد من المحاصيل المتأثرة بتغير المناخ.
الذُرة: يعد واحداً من المواد الخام الرئيسية للأغذية المصنعة والأعلاف، وكان لظاهرة النينيو السابقة (ظاهرة مناخية طبيعية تصبح فيها المياه السطحية في وسط المحيط الهادئ وشرقه دافئة بشكل غير عادي وتتسبب في تغيّرات في أنماط الطقس في جميع أنحاء العالم) أيضاً تأثير سلبي على هذا المحصول..
ومن المرجح أن ينخفض إنتاج الذرة العالمي بشكل كبير بحلول عام 2050 بسبب تقلبات درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار.
وسوف تتأثر جميع مناطق النمو الرئيسية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، بهذا التغيير، لأن انخفاض الإنتاج قد يؤثر على الأسعار، بل ومن المرجح أن يؤدي إلى أزمة غذائية في المناطق التي تشكل الذرة الغذاء الرئيسي لها.
فول الصويا: محصول غذائي وزيتي من المحاصيل الأكثر استهلاكاً في العالم، ومعظم إنتاجه يقع في الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين، ويُستخدم لتغذية الماشية.
وتسببت الظروف الحارة والجافة الشاذة في البلدان الثلاثة في انخفاض شديد في إنتاج فول الصويا، ويمكن أن يؤدي انخفاض إنتاجه إلى نقص في أعلاف الماشية، والذي بدوره يغذي ارتفاع سعر اللحوم أو منتجات الألبان وتوافرها وجودتها.
السكر: تم تحديد أزمة المناخ في السابق على أنها تهديد للقهوة، ويمكن أن يمتد تأثيرها الآن إلى متعة أخرى في الحياة وهي الحلوى، حيث ألحقت الظروف الجوية السيئة بما في ذلك الجفاف الشديد أضراراً بالغة في جميع أنحاء أوروبا بمحاصيل البنجر (خضار جذرية)، حيث يعد الاتحاد الأوروبي أكبر منتج في العالم للبنجر.
وبالمثل: تأثر قصب السكر في البلدان المنتجة الرئيسية، مثل البرازيل والهند وتايلاند، كما تسببت الظروف المناخية القاسية وتداعيات ظاهرة النينيو إلى تقلص الإنتاج في ظل تزايد الطلب، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السكر.
السمك والمأكولات البحرية: تغير المناخ له تأثير كبير ليس على الأرض والمحاصيل الزراعية فقط، ولكن أيضاً على المحيطات، حيث ترتفع نسبة الحموضة في الماء، ما يهدد حياة العديد من الكائنات البحرية التي يستخدمها الإنسان كغذاء – مثل المحار والمحاريات الأخرى.
كما أن معظم أنواع الأسماك والحيوانات البحرية الأخرى تتكيف مع تغير المناخ ببطء شديد.
وخلال عملية التكيف قد يتناقص حجمها، وخاصة الأنواع الكبيرة، التي قد نضطر في المستقبل إلى زراعة كافة المأكولات البحرية والأسماك في ظروف اصطناعية.
ختاماً: نحن نواجه أزمة مناخية لم يعد بوسعنا إنهاؤها، بل لم يعد بوسعنا سوى احتوائها، فيما سيصبح تغير المناخ بشكل متزايد محركاً للأسعار في المستقبل، هذا في حال لم يكن من الممكن احتواؤه أو تكييف الزراعة بشكل أفضل مع تغير المناخ.