رمضان.. ما أحوجنا إلى قيمه الإنسانية السمحة

مقدمة

يُعد شهر رمضان المبارك محطة إيمانية وتربوية تبرز فيها أسمى القيم الإسلامية، وعلى رأسها قيم التسامح والتعايش، التي تشكل أساسًا للعلاقات الإنسانية السليمة. فالإسلام، دين الفطرة والتوازن، جاء لترسيخ هذه القيم في النفوس، ورمضان بخصوصيته يُجسّد هذه المبادئ في أبهى صورها. 

ومن خلال استقراء النصوص القرآنية والحديثية، واستلهام الدروس من سير الشخصيات البارزة، تتجلى مكانة رمضان في تعزيز الوئام المجتمعي والتسامح الحضاري.

أولًا: رمضان شهر التهذيب الأخلاقي وتعزيز التسامح

من مقاصد الصيام الكبرى تهذيب النفس، وترويضها على الصبر، والتسامح مع الآخرين، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

فالغاية من الصيام ليست الامتناع عن الطعام والشراب فحسب، بل تحقيق التقوى، التي تشمل ضبط النفس، وكظم الغيظ، والرحمة بالآخرين. وفي الحديث النبوي، يؤكد النبي ﷺ هذا البعد الأخلاقي للصيام: «إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقلْ: إني صائمٌ» (متفق عليه).

وهذا يرسّخ ثقافة ضبط النفس والتسامح في التعامل مع المخالفين، وهي قيمة محورية في بناء المجتمعات المتماسكة.

النموذج النبوي في التسامح خلال رمضان

من أبرز الأمثلة على التسامح النبوي في رمضان، موقفه ﷺ عند فتح مكة، حيث قال لكفار قريش الذين آذوه وطردوه: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (السيرة النبوية لابن هشام). وهذا الموقف يعكس جوهر الصيام في تطهير النفس من الأحقاد، وجعل التسامح نهجًا ثابتًا في الحياة.

ثانيًا: رمضان والتعايش بين الأديان والثقافات

الإسلام يدعو إلى التعايش السلمي، والتعاون مع مختلف الفئات، ورمضان يوفر بيئة خصبة لتعزيز هذه القيم. يقول الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8). وهذا يدل على أن الإسلام يدعو إلى البر والإحسان لغير المسلمين ما داموا مسالمين.

التعايش في سيرة الخلفاء والعلماء

من النماذج البارزة في التعايش، الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جسّد مبدأ التسامح مع أهل الكتاب، ومن ذلك عهده لأهل القدس الذي جاء فيه: «هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان…» (تاريخ الطبري). وهذه الوثيقة تعتبر من أوائل المواثيق التي رسّخت التعايش الديني، وهي روح تتجدد في رمضان، حيث يتشارك المسلمون وغيرهم مظاهر الفرح والتواصل الاجتماعي.

ثالثًا: الصيام وسيلة لمكافحة التعصب والتطرف

الصيام يساعد على كسر النزعة الأنانية، ويزرع في النفس معاني الإحساس بالآخر، وهو ما يعزز قيم الرحمة والمسامحة. يقول النبي ﷺ: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه). وهذا الحديث يبرز كيف أن الصيام يعوّد المسلم على التواضع وكبح الغضب، وهو ما يقود إلى مجتمعات أكثر تسامحًا واعتدالًا.

دور المؤسسات الدينية والثقافية في تعزيز التعايش في رمضان

يُمثل رمضان فرصة للمؤسسات الإسلامية لتعزيز خطاب التسامح، من خلال:

  • تنظيم موائد الإفطار المشتركة لتعزيز الحوار بين الثقافات.
  • إطلاق مبادرات خيرية تشمل جميع فئات المجتمع دون تمييز.
  • تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الإسلام من خلال الحوار والانفتاح على الآخر.

الخاتمة

يظل شهر رمضان نموذجًا عمليًا للتسامح والتعايش، حيث يجمع القلوب على مائدة واحدة، ويهذب النفوس، ويعزز روح الأخوة الإنسانية. وهو فرصة لإعادة التفكير في دور الدين في تحقيق السلم المجتمعي، بعيدًا عن التعصب والصدام.

فما أحوج العالم اليوم إلى استلهام قيم رمضان، وجعلها منهجًا دائمًا في بناء مجتمعات يسودها التسامح والاحترام المتبادل.