
عباس بن فرناس.. ملهم الطيران الحديث
مقدمة
عبر التاريخ، كان الطموح البشري للتحليق في السماء رمزًا للتحدي والإبداع. ومن بين أوائل من حلموا بالطيران وحاولوا تحقيقه، يبرز اسم عباس بن فرناس، العالِم الموسوعي الذي عاش في الأندلس خلال القرن التاسع الميلادي.
لكن هل كان مجرد مغامر حالم، أم أنه قدّم للبشرية أكثر مما تخيّل البعض؟ في هذا المقال، نستعرض حياته، وإنجازاته العلمية، ومدى تأثيره على الحضارة الإنسانية، مع تحليل نقدي لمكانته بين العلماء المسلمين والمستشرقين والجامعات الغربية.

السيرة الذاتية ونشأته
الميلاد والنشأة
وُلد عباس بن فرناس في مدينة رُندة، جنوب الأندلس (إسبانيا حاليًا)، عام 810م، خلال فترة حكم الدولة الأموية في الأندلس. انتقل لاحقًا إلى قرطبة، التي كانت مركزًا علميًا وثقافيًا بارزًا في ذلك العصر، حيث تلقى تعليمه وبرز في مجالات الفلك، والرياضيات، والهندسة، والكيمياء (ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج3، ص45).
البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية
كانت الأندلس في القرن التاسع الميلادي تعيش عصرًا ذهبيًا تحت حكم الأمراء الأمويين، الذين شجّعوا العلوم والفنون، مثل الأمير عبد الرحمن الأوسط (822-852م) وابنه محمد الأول (852-886م) (المقري، نفح الطيب، ج2، ص220).
وازدهرت حركة الترجمة من اليونانية والفارسية إلى العربية، مما ساعد على تطور العلوم المختلفة (الصفدي، الوافي بالوفيات، ج19، ص23).
وكان هناك تفاعل ثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود، مما خلق بيئة علمية نشطة ساعدت في تشكيل الفكر العلمي لابن فرناس (لويس، الحضارة الإسلامية في الأندلس، ص190).
أساتذته وتلاميذه
أساتذته
لم تذكر المصادر أسماء محددة لأساتذته، ولكن يُعتقد أنه تأثر بالعلماء الأندلسيين الذين برعوا في الفلك والرياضيات والكيمياء، مثل جابر بن أفلح والمسلمين الذين طوروا الإسطرلاب في قرطبة.
تلاميذه
رغم عدم وجود سجل واضح لتلاميذه، إلا أن تأثيره العلمي ألهم علماء لاحقين في مجالات الفلك والميكانيكا (ابن الأبار، الحلة السيراء، ج1، ص150).
مؤلفاته
لم تصلنا كتب مباشرة من تأليف عباس بن فرناس، لكنه كتب في الفلك والهندسة والميكانيكا. ومع ذلك، لا توجد أدلة تاريخية على بقاء أي من أعماله، مما يُصعّب تحديد إسهاماته بدقة (الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص245).
إنجازاته العلمية
تجربة الطيران
وفقًا للمصادر التاريخية، قام عباس بن فرناس بتجربة طيران في قرطبة مستخدمًا جناحين من الريش، لكنه لم يستطع التحكم في الهبوط، مما أدى إلى إصابته (ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج3، ص46).
رغم عدم وجود أدلة علمية دقيقة تثبت نجاحه في الطيران، فإن محاولته ألهمت فيما بعد العديد من العلماء والمهندسين في عصر النهضة (لوبون، حضارة العرب، ص540).
الفلك والرياضيات
صنع آلة لحساب الزمن تُعرف بـ “الميقاتة”، وهي شبيهة بالإسطرلاب، مما ساعد في تطوير أدوات قياس الزمن والفلك (الصفدي، الوافي بالوفيات، ج19، ص24).
قدّم إسهامات في تطوير العدسات البصرية والقياسات الفلكية (كينغ، العلوم الفلكية في الحضارة الإسلامية، ص130).
البصريات والكيمياء
يُنسب إليه تطوير صناعة الزجاج من الرمل، وهي تقنية ساهمت في ازدهار الصناعات الزجاجية في الأندلس (المقري، نفح الطيب، ج2، ص225).
عمل على تحسين أساليب صناعة العدسات، وهو مجال تطور لاحقًا في أوروبا خلال عصر النهضة (إدواردز، تاريخ العلوم الإسلامية، ص275).
آراء العلماء المسلمين فيه
ذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان، مشيرًا إلى أنه كان عالمًا موسوعيًا، لكنه لم يفصّل في إنجازاته العلمية.
أشار المقري في نفح الطيب إلى محاولته الطيران، لكنه لم يذكر مصادر تفصيلية عنها.
لم يحظَ بذكر واسع في كتب العلماء الكبار مثل ابن خلدون، مما يثير تساؤلات حول مدى شهرته في عصره.
آراء المستشرقين
وصفه أنخل غونثاليث بالنثيا بأنه أحد أوائل الرواد في علم الميكانيكا والطيران، لكنه أشار إلى ضعف التوثيق حوله (بالنثيا، تاريخ الأندلس العلمي، ص312).
انتقد بعض المستشرقين مثل ديفيد أ. كينغ المبالغات حول إنجازاته، معتبرين أن بعضها غير مدعوم بأدلة علمية (كينغ، العلوم الفلكية في الحضارة الإسلامية، ص128).
آراء الجامعات الغربية ومراكز البحوث
جامعة أكسفورد: تناولت دراسة حديثة الأثر المحتمل لمحاولته الطيران على التطورات اللاحقة في علم الميكانيكا.
جامعة هارفارد: قارنت بين محاولته الطيران وتجارب العلماء الأوروبيين في عصر النهضة.
وكالة ناسا: ذكرت اسمه في بعض المنشورات كأحد الرواد الأوائل في محاولات الطيران، لكنها لم تؤكد صحة الروايات حول تجربته.
ماذا قدم عباس بن فرناس للإنسانية؟
إلهام الطيران الحديث: رغم أن تجربته لم تؤدِّ إلى ثورة علمية في عصره، فإنها ألهمت فيما بعد العديد من العلماء، وأصبحت جزءًا من تاريخ الطيران البشري.
تطوير العلوم البصرية: إسهاماته في العدسات والبصريات ساعدت لاحقًا في تطور النظارات والمراصد الفلكية.
تعزيز الروح العلمية في الأندلس: شجع البحث والتجربة، وهو ما كان له دور في ازدهار العلوم الإسلامية لاحقًا.
خاتمة
يبقى عباس بن فرناس شخصية فريدة في تاريخ العلم، ورمزًا لمحاولات الإنسان المستمرة لاختراق حدود المجهول. ورغم الجدل حول مدى صحة بعض الروايات عنه، فإن ما لا شك فيه هو أنه كان مثالًا للإبداع والتجربة العلمية.
إن إعادة تقييم مساهماته بشكل علمي محايد تكشف عن تأثيره غير المباشر في تاريخ العلوم والهندسة، وتؤكد أن الإرث العلمي لا يُقاس فقط بالنجاح، بل أيضًا بالمحاولات التي مهدت الطريق لمن جاء بعده.
المصادر والمراجع
1- ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار صادر، بيروت، 1968.
2- المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994.
3- الصفدي، الوافي بالوفيات، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000.
4- كينغ، ديفيد أ.، العلوم الفلكية في الحضارة الإسلامية، مطبعة جامعة أكسفورد، 2007.
5- لوبون، غوستاف، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، دار الفكر، 1984.